مفاهيم اجتماعية خاطئة في العلاج النفسي
د.الحارث عبد الحميد حسن
نشرت مجلة الصحة النفسية العدد 11 - آذار 2005
على الرغم من ورود كلمة "النفس" و " النفسي" على لسان الجميع، ألا أن الاعتقاد السائد لدى بعض الناس، أن الطب النفسي وكذلك علم النفس، هما موروثان غريبان ولا يمتان إلى الإسلام بصلة، أو أن كليهما من الأمور الثانوية التي لا تستدعي الخوض فيهما أو التعمق بدراستهما. وقد يتهم المعالج النفساني في مجتمعاتنا أحيانا بأنه لا يؤمن بالجوانب الروحية والدينية في الوقاية أو العلاج أو المتابعة كذلك، يعتقد الكثيرون وبضمنهم العديد من المثقفين والمتعلمين أن المرض النفسي، ما هو إلا ضعف في الشخصية أو مجموعة من الضغوط الحياتية التي تقع على الفرد فتصيبه بالهم والغم والحزن والاضطراب. وقد يظل الفرد المصاب بهذا المرض النفسي أو ذاك ،حائرا ويدور في تلك الغموض والتناقضات والإيحاءات فيسمع من هذا وذاك من أبناء أسرته أو أصدقائه أو مجتمعه الصغير، وتزداد حيرته واضطرابه عندما تتعزز هذه المشاعر الخاطئة بآراء ومعالجات المشعوذين والدجالين الذين يتعاملون مع المرض النفسي على أنه تلبس شيطاني أو سيطرة لأرواح شريرة تحتاج إلى طردها بالقوة والعنف من داخل الجسد المسيطر عليه.
أن المرض النفسي لا يختلف دون شك عن غيره من الأمراض التي تصيب البدن، إلا في كونه يؤثر على الطبيعة البشرية والمزاج والعواطف والانفعالات. وبهذا فإن فعله وتأثيرة في الجسد، أكثر من المرض البدني ، إذ أن الألم النفسي الذي يخالج المريض عندما يصاب به، لا يمكن تشبيهه بأي ألم جسدي آخر، وهو تجربة ذاتية فردية لا يشعر بها ويتحسس لها إلا المريض نفسه. وقد يعاني المريض في أحيان كثيرة من أعراض نفسية وجسدية في آن واحد، وهذا ما يطلق عليه بالأمراض السايكوسوماتية أو النفسجسمية، وذلك عندما تتداعى أعضاء الجسد لما تعاني منه النفس أو العكس. وقد تطور الطب النفسي كثيرا طوال العقود العشرة الماضية ونضجت أفكاره ونظرياته وتعمقت دراساته وبحوثه حتى أصبحت اليوم أمام حقائق جلية وواضحة حول تسبيب الأمراض النفسية وعلاجها والوقاية منها. وعلى الرغم من التقدم الحاصل في هذا المجال ما زال باب البحث العلمي مفتوحا أما الظواهر والاضطرابات النفسية بهدف التوصل إلى الأسباب المؤكدة لها والتي سيتم التوصل أليها آجلا أم عاجلا وبالتالي يمكن إيجاد العلاج الشافي والكامل لها.
ومع كل هذا يبقى الاضطراب النفسي أو العقلي، اضطرابا يكتنفه الغموض وتشوبه التساؤلات وتتقاذفه النظريات وتتناوله الطرائق والوسائل العلاجية المختلفة، وصولا إلى الشفاء الذي هو الغاية النهائية لكل من الطبيب والمريض إلى حد سواء. أن السبب في هذا الغموض المتوقع الذي ينطوي عليه الاضطراب النفسي يعود إلى حقيقة أن الأعراض المرضية لهذا الاضطراب لا تتحدد بالجسد حصرا إنما تمتد إلى النفس . وقد يعني مصطلح النفس عند الكثيرين، الروح،أو العقل.وحيث أن الروح من عند الله ، وهي ما زالت عصية على البحث العلمي الدقيق. وهي شيء لا يمكن ملاحظته أو مشاهدته،وإدراكه حسيا عبر قنوات الحس الخمس المعروفة، وكذلك العقل، فهو مفهوم سقي أكثر من كونه علمي بحت، حيث لا يمكن ملاحظة العقل أو مشاهدته كجزء محسوس الجسد، إلا أن كليهما يمكن الاستدلال عليهما منطقيا وليس تجريبيا . لذلك أن محنة النظرة المنصفة للطب النفسي، أننا لا نستطيع أن نتقيد بشكل صارم بالجوانب المادية للإصابة بالمرض النفسي، لأننا بذلك نكون قد أهملنا التأثيرات البيئية لمحيطيه والضغوط النفسية في المجتمع والتي تقع على الفرد دون تدخل مباشر منه أو دون سيطرة منه على هذه الضغوط، ومن ناحية أخرى لا نستطيع أن نعرف بشكل متطرف أيضا في المؤثرات المحيطية والجوانب الروحية والعقلية، لأننا بهذا التوجه نكون قد نشرنا الجوانب المادية والتي تمثل أهمية كبيرة وأساسية في اكتشاف الأسباب الحقيقية، الكيمياوية والبايولوجية والوراثية للاضطراب النفسي. لذلك فأن المسؤولية التي تقع على عاتق الطبيب النفسي في المجتمع تعد كبيرة وهائلة، وتحدد بالنظرة المتوازنة، غير المتطرفة لآي من الطرفين، خاصة ونحن نتعامل مع الإنسان ،هذا الكائن الفريد الذي خلقه الله في أحسن تقويم وجعله خليفة له في الأرض. ويحتاج الطبيب النفسي لكي لا يتقاطع مع المجتمع، أفرادا وجماعات، إلى خلفية معرفية واسعة الجوانب الفلسفية والدينية والانثرويولوجية، فضلا عن الجوانب النفسية والعقلية، أن المطلوب منه دائما أن يكون مقنعا ومؤثرا في الأخر ، وان يلعب دورا فعالا تغيير القنا عات والاتجاهات والأحكام لدى الأفراد بخصوص الاضطراب النفسي والعقلي.
إن طبيعة المرض النفسي وجوهر أعراضه، تجعل من المريض أحيانا فاقدا لبصيرته، فهو لا يعتقد أنه مريض أو مصاب، وهنا يأتي دور الأسرة التي تستطيع أن تتلمس التغييرات والاضطرابات التي يعاني منها المريض . ولضعف الوعي الثقافي النفسي وللخوف والرهبة اللتان تحيطان هذه الأعراض دائما والتي تتمثل بالأوهام والهلاوس والأفكار غير المنطقية أو اللاعقلانية، فإن الأهل غالبا ما يربطو بين الأعراض العقلية والنفسية والقوى الغيبية ، وذلك في أن ينسبوا هذه الأعراض إلى الجن أو الأرواح الشريرة أو الكائنات غير البشرية التي جاءت لتسيطر على ابنهم. ويبقى الأهل يدورون في فلك الشيوخ أو المعالجين الشعبين، فهذا يقرأ القرآن الكريم على رأس المريض مستخدما السماعات، وذاك يستخدم السيف أو السكين أو الضرب المبرح هدفا في إخراج الجني الكافر من داخل الجسد المظلوم، وآخر يبحث عن علاج في دواء عشبي غير مسجل أو مواد أخرى تعطى للمصاب، يشربها أو يغسل جسده بها، وهناك عدد من المصابين ناتج عن سحر حاسد أو كاره أو مبغض أو غير ذلك. وتتعدد الروايات ويظل المرضى وذويهم يدفعون الأموال الطائلة في محاولة لمعالجة أبناءهم ويصرفون الوقت الطويل والتنقل من مكان إلى آخر بحثا عن معالج منصف. وبعد هذه الجولة السياحية الطويلة، يتذكر أحدهم أن لا فائدة من كل هذا، ويجب مراجعة الطبيب النفسي. ومن المثير أن بعض الاضطرابات النفسية تستجيب للعلاج الشعبي من خلال الإيحاء، وهذا ما يؤدي إلى ترسيخ فكرة العلاج الشعبي وجدواه في عقل البعض، في الوقت الذي يمكن إرجاع الشفاء في هذه الحالات إلى تخفيف القلق أو التوتر أو الشد النفسي الواقع على المريض واستبداله بالمعاملة الحسنة من قبل الأهل، إضافة إلى الاحتضان والاهتمام والتعاطف وهذا بحد ذاته هو جزء من العلاج النفسي الناجح ودون تأثير مباشر من قبل المعالج. أما العدد الأكبر من هؤلاء المرضى وخاصة المصابون باضطرابات عقلية تفقدهم الإرادة والبصيرة فأن حالتهم غالبا ما تزداد وتتفاقم ويذهب كثير منهم ضحية العلاج الخاطئ المبني أصلا على أسس خاطئة.
إذن نحن بحاجة ماسة إلى وعي نفسي جديد وثقافة نفسية صحيحة تجعلنا كأفراد صالحين، في المجتمع ومؤمنين بالله وكتبه ورسله، أن نتوسل الحقيقة في معالجة المرض النفسي من خلال المؤسسات الرسمية ذات العلاقة بالعلاج النفسي الصحيح وباستشارة مباشرة من الطبيب النفسي الذي لن يألوا جهدا في إعادة التوازن للمريض النفسي وصولا إلى إعادته إلى جادة الصواب والأمان ليكون عضوا نافعا في المجتمع وحركته. ومن خلال هذا الوعي السليم نكون قد تجاوزنا الكثير من المفاهيم الاجتماعية الخاطئة في العلاج النفسي والتي لا يمكن حصرها في مقالة قصيرة من هذا النوع. متمنين للجميع الصحة والآمان من أجل حياة أفضل.