كثير من أطفالنا اليوم يقضون أغلب أوقاتهم يمارسون ألعاب الفيديو ويتراسلون عبر البريد الإلكتروني وبرامج الدردشة (Chat) على شبكة الإنترنت, فإلى أين سيقودهم هذا?
علينا أن نعترف بأن أغلب الأطفال اليوم هم أكثر قدرة من آبائهم على برمجة جهاز الفيديو أو إعداد البرامج على حاسوب جديد, ومن شبه المؤكد أنهم سيتغلبون على والديهم في ألعاب الفيديو, ومن المرجح أنهم يشعرون بأنهم أذكى من والديهم! لكن المفاجأة هي أن هؤلاء الأطفال قد يكونوا محقين في ذلك تماما! فإذا كانت لاختبارات الذكاء أية فائدة تذكر, فسنرى أن الشباب اليوم هم أذكى بالفعل من آبائهم. وتشير الدراسات التي أجريت في العديد من البلدان إلى أن معدلات حاصل الذكاء (IQ) قد ارتفعت بصورة كبيرة منذ خمسينات القرن العشرين ـ وهو ما يكفي لأن يعني أن الشخص الذي كان ذكاؤه يصنف في الماضي على أنه "عادي", قد يصنف اليوم على أن ذكاءه منخفض. ويبدو أن مهارة البشر في ازدياد بتعاقب الأجيال.
لكن لا داعي للعجلة هنا; فالذكاء (Intelligence) مفهوم مبهم في أغلب الأحيان, وهناك جدل عنيف بين علماء النفس عما يمكن أن يعنيه بالفعل ارتفاع المعدل في اختبارات حاصل الذكاء. فيجادل بعض الباحثين بأن ذكاءنا لم يزد كثيرا عما كان عليه, ويفسرون ارتفاع المعدلات بأننا أحرزنا بعض التقدم في طرق معينة لحل المشكلات. وعلى الرغم من ذلك, يرى آخرون أنهم عثروا على أصداء لتأثير ارتفاع معدلات حاصل الذكاء في صورة قياسات "واقعية" للذكاء.
ما الذي يمكن أن نستفيده من كل هذا? هذا هو السؤال الذي تم طرحه على جيمس فلين (Flynn), أستاذ العلوم السياسية بجامعة ديوندين بنيوزيلندا; والذي كان أول من لاحظ ارتفاع معدلات حاصل الذكاء في منتصف الثمانينات من القرن العشرين , ونال شهرة واسعة بعد أن قام آخرون بوضع مصطلح "تأثير فلين" (Flynn effect) لوصف ملاحظاته. وقد أدت تلك الملاحظات إلى طرح مجموعة جديدة تماما من الأسئلة حول ما يمكن أن تفعله ـ وما لا يمكن أن تؤديه ـ اختبارات الذكاء بالنسبة لنا.
في مقال تاريخي نشره في عام 1987, أجرى فلين مقارنات تفصيلية لأربعة عشر بلدا فيما يتعلق بنتائج الاختبارات التي تهدف لقياس قدرة الشخص على التعليل المنطقي (Reasoning power). وجاءت أكثر النتائج اكتمالا من البلاد التي استمرت فيها الخدمة العسكرية الإلزامية حتى الثمانينات من القرن العشرين, مثل هولندا وبلجيكا; حيث خضع كل شاب تقريبا (وكل شابة في بعض البلدان), لاختبار للذكاء, وبذلك كانت النتائج ممثلة لسكان تلك البلدان. وتتباين طبيعة الاختبارات من بلد لبلد, لكن من الممكن تحويل نتائجها إلى حاصل للذكاء بحيث يمكن إجراء المقارنات بينها. وبالنسبة للدول الأخرى, كان على فلين الاعتماد على بينات اختبارات حاصل الذكاء. وقد أظهرت النتائج التي نشرت في مجلة (Psychological Bulletin), نموا فعليا في معدلات حاصل الذكاء, تصل إلى 25 نقطة للجيل. ومع ذلك, فلم تخبر النتائج الإجمالية فلين بالكثير, لذلك فقد بحث في نتائج كل نوع من أنواع التعليل المنطقي تم قياسها, مثل التعليل اللفظي (Verbal),والعددي(Numerical),والبصري ـ الحيزي (Visuo-spatial)والذي يقاس باختبارات خاصة أهمها اختبار رافن(Raven's matrices-) وهي أنماط تابعية تحتوي على قطعة ناقصة,ويتوجب على المفحوص أن يختار من بين مجموعة من البدائل التي يرى أن شكلها يصلح لأن يوضع مكان القطعة الناقصة). وعندما ألقى فلين نظرة متعمقة على هذه النتائج, كانت الأنماط واضحة; فقد تركز التحسن على مجالات التعليل البصري ـ الحيزي أكثر بكثير من مقابلاتها اللفظية والعددية. ومنذ أن نشر فلين مقالته هذه في العام 1987, أجرى فلين أبحاثه على البيانات المأخوذة من دول أخرى, بما فيها الأرجنتين. وقد اكتشف وجود نفس الميل لارتفاع معدلات حاصل الذكاء, وكذلك وجد أن المهارات البصرية الحيزية مسؤولة عن القدر الأكبر من هذا الارتفاع. ويخلص فلين إلى القول بأن "أجدادنا لم يكونوا متخلفين, أما نحن فلسنا عباقرة!".
ولا يتعجل فلين وغيره من الباحثين الوصول إلى استنتاجات بخصوص مغزى ارتفاع معدلات الذكاء في الأجيال المتعاقبة من البشر, وذلك حتى تتوفر المزيد من البيانات من دول أخرى, لكنه يتساءل عما إذا كنا قد وصلنا إلى نقطة لم يعد فيها الطلاب يرغبون في أن يدفعهم أحد للاستذكار, ويطرح سؤالا مهما; هل يمكن للظروف التي أدت لحدوث هذا التطور الكبير في القدرات أن تختفي مع ازدياد غنى المجتمعات الصناعية? ويقول: "في التاريخ البشري, كثيرا ما يؤدي التأثير (Influence) إلى الخمول. ولنتأمل ما حدث للرومان: فقد أصابهم الكسل واستأجروا الإغريق ليفكروا بدلا منهم". وحتى الآن, فليس هناك ثمة ما يدعو لأن المجتمعات الصناعية تسير في هذا الاتجاه, لكن من يدري?
* Bibliography:
References for this article are available from ACMLS on request